فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون}
اختلف النحاة في رفع: {مَثَلُ} فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير: وفيما يتلى عليكم مَثَلُ الجنة.
وقال الخليل: ارتفع بالابتداء وخبره: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك: قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال الله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} [الفتح: 29] وقال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] أي الصفة العليا؛ وأنكره أبو علي وقال: لم يسمع مَثَل بمعنى الصفة؛ إنما معناه الشبه؛ ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم: مررت برجل مثلك؛ كما تقول: مررت برجل شبهك؛ قال: ويفسد أيضًا من جهة المعنى؛ لأن مثلًا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام: صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها.
وقال الزجاج: مَثَّلَ الله عزّ وجلّ لنا ما غاب عنا بما نراه؛ والمعنى: مَثَلُ الجنّة جَنّةٌ تجري من تحتها الأنهار؛ وأنكره أبو عليّ فقال: لا يخلو المَثَل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت: صفة الجنّة جنّة، فجعلت الجنة خبرًا لم يستقم ذلك؛ لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضًا شبه الجنة جنة؛ ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حَدَث؛ والجنّة غير حَدَث؛ فلا يكون الأول الثاني.
وقال الفرّاء: المثل مقحم للتأكيد؛ والمعنى: الجنّة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ والعرب تفعل ذلك كثيرًا بالمثل؛ كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]؛ أي ليس هو كشيء.
وقيل التقدير: صفة الجنة التي وعِد المتقون صفة جنّة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.
وقيل معناه: شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدّة والخلود؛ قاله مقاتل.
{أُكُلُهَا دَائِمٌ} لا ينقطع؛ وفي الخبر: «إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى» وقد بيناه في التذكرة.
{وِظِلُّهَا} أي وظلها كذلك؛ فحذف؛ أي ثمرها لا ينقطع، وظلّها لا يزول؛ وهذا ردّ على الْجَهْمِيّة في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفنى.
{تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار} أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.
قوله تعالى: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سَلاَم وسَلْمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص.
وقال قَتَادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد.
وعن مجاهد أيضًا أنهم مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل: هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم.
وقال أكثر العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلًا في أوّل ما أنزل، فلما أسلم عبد الله بن سَلاَم وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرحمنا والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مُسَيْلِمَة الكذّاب؛ فنزلت: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36]: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30] ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن؛ فأنزل الله تعالى: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}: {وَمِنَ الأحزاب} يعني مشركي مكة ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس.
وقيل: هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: ومن أعداء المسلمين من ينكر بعض ما في القرآن؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السموات والأرض.
{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ} قراءة الجماعة بالنصب عطفًا على: {أعبد}.
وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرّأ عن المشركين، ومن قال: المسيح ابن الله وعزير ابن الله، ومن اعتقد التشبيه كاليهود.
{إِلَيْهِ أَدْعُو} أي إلى عبادته أدعو الناس.
{وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي أرجع في أموري كلها.
قوله تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكمًا عربيًا؛ وإنما وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربيّ، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضًا.
وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكمًا عربيًا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام.
وقيل: أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم.
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة.
{بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ} أي ناصر ينصرك.
{وَلاَ وَاقٍ} يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} أي صفة الجنة التي وعد المتقون: {تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم} لا ينقطع أبدًا: {وظلها} يعني أنه دائم لا ينقطع أبدًا وليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع، ولا يزول وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون: إن نعيم الجنة يفنى وينقطع وفي الآية دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم.
كما يقول أبو الهذيل واستدل القاضي عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد.
قال: ووجه الدليل أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة لقوله: {أكلها دائم} يعني لا ينقطع قال ولا ينكر أن تكون في السموات جنات كثيرة تتمتع بها الملائكة، ومن يعد حيًا من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ماروي إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد لم تخلق بعد.
والجواب عن هذا أن حاصل دليلهم مركب من آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}، والأخرى قوله: {أكلها دائم وظلها}، فإذا أدخلنا التخصيص على هذين العمومين سقط دليلهم فنخص هذين الدليلين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة.
منها قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} وقوله تعالى: {تلك عقبى الذين اتقوا} يعني أن عاقبة أهل التقوى هي الجنة: {وعقبى الكافرين النار} يعني في الآخرة.
قوله: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} في المراد بالكتاب هنا قولان: أحدهما أنه القرآن والذين أتوه المسلمون وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أنهم يفرحون بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت بتجدد نزول القرآن: {ومن الأحزاب} يعني الجماعات الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار واليهود والنصارى: {من ينكر بعضه} وهذا قول الحسن وقتادة.
فإن قلت: إن الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله فكيف قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه.
قلت: إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته لأنه قد ورد فيه آيات دالاَّت على توحيد الله وإثبات قدرته وعلمه وحكمته، وهم لا ينكرون ذلك أبدًا والقول الثاني أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلًا أربعون من نجران وثلاثون من الحبشة وعشرة ممن سواهم فرحوا بالقرآن لكونهم آمنوا به وصدقوه، ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين من ينكر بعضه.
وقيل: كان ذكر الرحمن قليلًا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله تعالى ذكر لفظه الرحمن في القرآن فرحوا بذلك فأنزل الله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب يعني مشركي مكة من ينكر بعضه وذلك لمَّا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله: {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي} وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن: {قل} أي قل يا محمد: {إنما أمرت أن أعبد الله} يعني وحده: {ولا أشرك به} شيئًا: {إليه أدعو} إي إلى الله وإلى الإيمان به أدعوا الناس: {وإليه مآب} يعني مرجعي يوم القيامة.
{وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًا} أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب وهو القرآن عربيًا بلسانك ولسان قومك.
وإنما سمي القرآن حكمًا لأن فيه جميع التكاليف والأحكام والحلال والحرام والنقض والإبرام، فلما كان القرآن سببًا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة، وقيل إن الله لما حكم على جميع الخلق بقبول القرآن والعمل بمقتضاه سماه حكمًا لذلك المعنى: {ولئن اتبعت أهواءهم} قال جمهور المفسرين: إن المشركين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائهم فتوعده الله على اتباع أهوائهم في ذلك.
وقال ابن السائب: المراد به متابعة آبائهم في الصلاة لبيت المقدس: {بعد ما جاءك من العلم} يعني بأنك على الحق، وأن قبلتك الكعبة هي الحق.
وقيل: ظاهر الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره وقيل: هو حث للنبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة والقيام بما أمر به ويتضمن ذلك تحذير غيره من المكلفين لأن من هو أرفع منزلة وأعظم قدرًا وأعلى مرتبة إذا حذر كان غيره ممن هو دونه بطريق الأولى: {ما لك من الله من ولي ولا واق} يعني من ناصر ولا حافظ. اهـ.

.قال أبو حيان:

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}
مثل الجنة أي: صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه، والخبر محذوف أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل.
تقول: مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى: {وله المثل الأعلى} أي الصفة العليا، وأنكر أبو عليّ أن يكون مثل بمعنى صفة قال: إنما معناه التنبيه.
وقال الفراء: أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار، ونحو هذا موجود في كلام العرب انتهى.